08 - 12 - 2025

انتباه | من كشك إلى منصور: كيف صُنعت رثاثة الهجوم على يوليو؟

انتباه | من كشك إلى منصور: كيف صُنعت رثاثة الهجوم على يوليو؟

في السبعينيات والثمانينيات، بدت مصر وكأنها تُقاد نحو موجة مقصودة لا تخطئ العين اتجاهها؛ موجة تستهدف ثورة يوليو في جذورها، لا من باب النقد المشروع، بل من باب نزع الشرعية عن لحظة تحوّل عاشتها البلاد باعتبارها عنوانًا لاستقلال الإرادة المصرية. كان المشهد الثقافي والإعلامي، في كثير من جوانبه، أقرب إلى جوقة تعزف على لحن واحد أُعدّ مسبقًا: إسقاط سردية يوليو، وإحلال رواية أخرى محل التاريخ الذي عرفه الناس وعاشوه.

ولم يكن ما جرى حينها نقاشًا فكريًا طبيعيًا ولا اختلافًا بين مدارس الرأي، بل كان حملة كاملة الأركان، تتحرك خارج ميدان البحث الرصين، وتُنفّذ بأقلام وجدت في الضجيج وسيلة للصعود في سوق ثقافي مرتبك يبحث عن صوت مرتفع لا عن معرفة راسخة. وفي ظل هذا المناخ، راحت تلك الحملات تمهّد لمشروع سياسي وإعلامي أوسع، هدفه إعادة كتابة تاريخ يوليو على نحو يلائم مصالح قوى صاعدة بعد رحيل عبد الناصر، ويفتح الطريق أمام شرعية جديدة تقوم أساسًا على التشكيك في الثورة وإرثها.

في ذلك المناخ المضطرب، ارتفع صوتان على نحو لافت: محمد جلال كشك وأنيس منصور. كان لكل منهما مجاله وطرائقه، لكنهما التقيا عند نقطة واحدة: تحويل الكتابة من محاولة للفهم إلى سلعة تُباع في سوق يتغذى على الإثارة، واستبدال البحث بالتشكيك، والتحليل بالتأويل المريب، والسرد بالتشويه المتعمد. كانت النصوص تُصنع لا لتفتح بابًا للمعرفة، بل لتثير ضجيجًا، ولا لتُبني على وقائع راسخة، بل لتهدم ما استطاعت أن تهدمه من التماسك التاريخي الذي شكّل وعي جيل كامل.

وفي هذا السياق برز محمد جلال كشك باعتباره واحدًا من أبرز الأصوات التي رأت في موجة الهجوم على يوليو فرصة للصعود. نصوصه لم تكن خروجًا على تلك الموجة، بل كانت جزءًا من تغذيتها اليومية: كتابات تعتمد على جمع الشذرات والقصص المتناثرة، وصياغتها في صورة «كشف» مثير يعوّض ضعف الحجة بقوة الادعاء. ولم يكن كشك استثناءً، بل كان حلقة داخل جوقة كاملة من كتّاب وصحفيين وجدوا في السوق الثقافي المضطرب ربحًا سهلًا، فباعوا نصوصًا مشوهة تسوّق للناس على أنها حقائق، بينما هي لا تزيد عن كونها روايات تُستهلك جماهيريًا كمواد للإثارة. وكان الهدف الحقيقي خلف هذه الصناعة واحدًا: ضرب شرعية يوليو واقتلاعها من الذاكرة الوطنية، عبر خطاب يقدّم الضجيج على المعرفة ويستبدل الوثيقة بالانطباع.

لقد بدا المشهد كله، في تلك السنوات، كأنّه حركة مدروسة تُديرها ظلال لا تُرى، بينما ينهض فوق المسرح كتّاب يعرفون جيدًا الدور المطلوب منهم. لم يكن محمد جلال كشك، ولا أنيس منصور، يتحركان في فراغ، ولا كانت نصوصهما مجرد اجتهادات فردية خرجت من قناعة فكرية أو مراجعة نقدية جادة، بل كانت أقرب إلى أدوات في سياق سياسي يريد أن يطوي صفحة، ويفتح أخرى، دون أن يسأل الناس إن كانوا مستعدين لتلك القطيعة مع زمنهم القريب.

وحين أصدر كشك عام 1988 كتابه «ثورة يوليو الأمريكية»، بدا كما لو أنه يقدم “الوثيقة الحاسمة” التي ستغيّر القراءة العامة لثورة يوليو. لكنه لم يقدّم أكثر من نصّ متعسّف، جُمعت مادته من قصاصات أخبار، وإشاعات مقاهي، وتكهنات تمتلئ بالثغرات أكثر مما تمتلئ بالدلائل. لم يكن الكتاب بحثًا، بل كان رغبة في الإيحاء: إيحاء بأن وراء ثورة يوليو مؤامرة كبرى، بلا أن يتكلف الرجل عناء إقامة الدليل. وفي العام نفسه، قدّم أنيس منصور كتابه «عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا»، وهو عنوان يَعِدُ القارئ بالصدام والدهشة، لكنه بمجرد الانغماس في صفحاته ينكشف كتابًا مكتوبًا على مهل صحفي لا على منطق مؤرخ؛ عمل كبير الحجم، سريع الإيقاع، يُراكم الحكايات ولا يصنع رؤية، يغازل القارئ بلمعان النص لا بعمق الحقيقة.

ثم جاءت الضربة الثالثة في 1989 عبر «كلمتي إلى المغفلين». وهنا بدا كشك وقد قرر أن يتحرر من أي قيد: لا تحليل، ولا استدلال، ولا حتى محاولة لتجميل اللغة. نص هجائي صريح، يراهن على السباب أكثر مما يراهن على الفكرة، يقدّم نفسه كخطيب يلوّح بغبار الموالد لا ككاتب يريد أن يُنقّب عن الحقيقة. كان المشهد يزداد صخبًا، وكان المطلوب من هذا الصخب أن يصنع واقعًا بديلاً: أن يتراجع صوت يوليو في الذاكرة، وأن يعلو فوقه صوت آخر، صوت يقول للناس إن ما عاشوه طوال عقدين لم يكن مشروعًا للتحرر، بل كان “خدعة كبرى”.

هذا التتابع لم يكن اعتباطيًا؛ كان جزءًا من هجمة منظمة، تُعيد رسم الخرائط الفكرية لما بعد عبد الناصر. كانت السلطة الجديدة تسعى إلى شرعية تُبرّر خياراتها، وتحتاج إلى تاريخ يعيد كتابة نفسه، وإلى سردية تقطع مع يوليو وتفتح الطريق أمام مشروع مختلف. وهكذا وُضعت الكتب الرثة على الأرصفة، وتلقّفها جمهور يبحث عن الإثارة في زمن كانت فيه السياسة تُعاد صياغتها في غرف مغلقة. لم تكن تلك الكتب مجرد نصوص، بل كانت أدوات في معركة أكبر: معركة طمس الذاكرة لتمرير الواقع. وكان ذلك هو جوهر الحملة كلها: أن يُنسى الناس ما عاشوه، ليُقبلوا على ما يُراد لهم أن يعيشوه.

لكن أخطر ما في تلك الموجة أنها لم تكن تعبّر عن رؤية فردية بقدر ما كانت تعكس ثقافة مأزومة تتواطأ فيها السلطة والإعلام وبعض الأقلام. ثقافة تخلط بين الجرأة والابتذال، وبين التحليل والشتيمة، وبين النقد والمعاول التي تهدم دون أن تضع حجرًا واحدًا في البناء. هكذا صنعت تلك المرحلة رموزها الزائفة: كتّاب يُعاد تدوير نصوصهم كلما احتاج المشهد الثقافي إلى مادة للضجيج، لا للمعرفة.

إن العودة إلى كتابي كشك اليوم – «ثورة يوليو الأمريكية» و«كلمتي إلى المغفلين» – تكشف بلا مواربة أن ما قدّمه لم يكن مشروعًا فكريًا، بل سلعة صاخبة تتغذى على الإثارة بلا منهج ولا ضابط معرفي. كان كشك، في أفضل أحواله، حاطب ليل يجمع ما يقع تحت يده من شذرات أخبار وشائعات، ويحوّلها إلى نص مثير يستدعي الجلبة أكثر مما يفتح أبواب الفهم. 

إعادة إحياء هذه الكتب اليوم، لا تحمل أي بعد معرفي، بل هي إعادة تدوير للرثاثة نفسها: نصوص بلا مشروع، تُعاد إلى الواجهة لأن السوق الثقافي المعاصر لا يزال يلتهم الضوضاء، ويبحث في أرشيف متداعٍ عن مادة يملأ بها فراغه الفكري والإعلامي.

المفارقة أن يوليو بقيت، بتاريخها المعقد وطبقاتها المتعددة، بينما ذهبت هذه النصوص إلى رفوف هامشية لا تُقرأ إلا كأثر عابر لضجيج وقتي. بقيت الثورة لأنها حدث مؤسس في الوجدان الوطني، له جذور أعمق من أي ضجيج ظرفي، وأقوى من أي محاولة لتشويهها بالكلمات. واندثرت الحملات لأنها كانت فقاعات صوتية، تسعى إلى التشويه ولا تملك أدوات المعرفة.

ومع ذلك، يحاول البعض اليوم إعادة إحياء تلك الكتب كما لو أن الزمن لم يمضِ. كأن الثقافة الراهنة، بعجزها وارتباكها، تبحث في قبور الرثاثة عن مادة جديدة للجدل. لكن التاريخ الحقيقي – بما له وما عليه – لا يهتز بمثل هذه المحاولات؛ لأن ما بُني على الإثارة يزول، وما تأسس على فعل تاريخي حيّ يبقى.

والدرس واضح: الضجيج قد يعلو أحيانًا، لكنه لا يصنع تاريخًا. الكتابة يمكن أن تتحوّل إلى سلعة، لكنها لا تصير معرفة. أما يوليو، بكل ما حملته من أحلام وأخطاء، فتبقى لأنها خرجت من قلب الناس، لا من سوق الضوضاء.
-----------------------------
بقلم: محمد حماد

مقالات اخرى للكاتب

انتباه | من كشك إلى منصور: كيف صُنعت رثاثة الهجوم على يوليو؟